إن المناداة بالمساواة في الإرث لها أصلا أصيلا و ركنا حصينا من الدين، وإذا كانت الوصية حقا شرعيا وعقليا ومنطقيا لصاحب التركة والثروة، لتقسيمها بين أبنائه وأقاربه، فإن من العدل المساواة والتسوية في العطاء، مع إمكانية التفضيل للنساء، وسنرى كيف يتم طمس أحاديث كثيرة واردة في التسوية بين الأبناء في العطاء، وإذا كان لا بد من إيثار وتفضيل فيجب أن يتم للنساء.
روى البخاري (2587 ) ومسلم (1623) عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ) فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ .
ولمسلم (1623) : ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَشِيرُ ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ : ( فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا ، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْر)ٍ .
فالوصية للأبناء والصدقة عليهم والهبة لهم، تقتضي العدل والمساواة بين الأبناء، سواء كانوا ذكورا أو إناثا، ولا يجب أن يكون هناك تفضيل لأحد الأبناء على الآخر، ولا ندري لماذا يتم تغييب مثل هذه الأحاديث الواضحة في الدعوة للمساواة في ما يملكه الوالدان، إذا أرادا أن يحولا ملكيته للأبناء، وفي هذا يقول ابن قدامة في المغني: ( يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها : أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين، إما رد ما فَضَّل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر، قال طاوس : لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد، وعروة ” انتهى من “المغني) (5/ 387) .
ويحكي ابن قدامة في نفس المرجع السابق على أن التسوية في العطاء هو رأي جمهور الفقهاء، يقول:( وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن المبارك : تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد : ” سوِّ بينهم ” ، وعلل ذلك بقوله: أيسرك أن يستووا في برك ؟ قال : نعم ، قال : فسوِّ بينهم ، والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا لأحد لآثرت النساء على الرجال ) رواه سعيد في ” سننه “؛ ولأنها عطية في الحياة، فاستوى فيها الذكر والأنثى، كالنفقة والكسوة . ( انتهى من “المغني. (5/ 389).
هذا النص لابن قدامة يمكن أن يشكل أرضية هامة للعدل بين الإناث والذكور في الإرث وتقسيم التركة، كما يشكل أرضية هامة وواضحة المعالم في الوصية، والأجمل من هذا كله، أن المذهب المالكي يؤيد مسألة المساواة ، وهو رأي الحنفية والشافعية أيضا، وقد شذ أحمد بن حنبل عن هؤلاء، ليصبح رأي الجمهور الغالب هو المساواة في العطاء بين الأبناء، الذي يساعدنا في وضوح الرؤية، للقيام بخطوة هامة إلى الأمام، في هذه المسألة سواء في نظام الوصية والصدقة والهبة، أو في نظام الإرث، مع التنبيه إلى حديث الرسول الذي يشير إشارة لا لبس فيها، بأنه لو كان سيفضل أحدا في العطاء لفضل النساء، وهو الأمر الذي لا يجب أن نمر به مرور السحابة العابرة في سمائها، بل يتوجب الوقوف عنده، لتوجيه أصابع الاتهام لكل الممارسات الفقهية، التي مارست الحيف ضد المرأة، وكل الممارسات التي تمارس ضدها في المحاكم، فعندما يهب للأنثى أبوها شيئا من تركته، ويعمد الورثة الى الطعن في هذه الهبة ففي الغالب العام يحكم ضد الموهوب لها وتنزع منها الهبة، ظلما وعدوانا بغير حق، ويتم تغييب الآيات القرآنية الواضحة في الوصية، والنصوص الحديثية والاجتهادات الفقهية المتقدمة في هذا الإطار، لصالح اجتهادات ذكورية من خارج المذهب المالكي، تمارس الحيف ضد النساء بدعوى أن ذلك هو الدين والدين من هذا براء.