في كل بلدان العالم، وفي كل الأنظمة تجد الأساس القانوني والعقلي لتقسيم التركة هو (الوصية) وهذا ما سار عليه القرآن في الحث على أن يكتب صاحب الثروة وصيته التي اعتبرها الإسلام واجبة لتقسيم ثروته وذلك في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) البقرة.
وبهذه الآية القطعية الدلالة، تكون الأمور واضحة بل أشد وضوحا، فصاحب الثروة الذي راكمها وأسسها وأنتجها ووفرها، يكون هو صاحب الحق الأول في توزيعها بين المقربين منه، فهو الأجدر بذلك والأدرى، بشرط –طبعا- أن لا يكون سفيها، أي غير مؤهل لتقسيم ثروته على مستحقيها بما يحقق العدل، لأن الأصل في المال أن لا يؤتى للسفيه الذي لا يحسن التصرف والتدبير، سواء كان ذكرا أو أنثى، حيث ينص القرآن على ذلك بقوله:” (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) النساء وليس كما ادعى بعض المفسرين الذين طغت ذكوريتهم بشكل يتعارض مع المقصد الإلهي في المساواة بين الذكور والإناث، حيث ادعوا بأن السفهاء هنا هن النساء وكذلك الصبيان بشكل عجيب غريب، لم تشر إليه الآية من سورة النساء لا من قريب ولا من بعيد.
كانت الوصية بشكلها القرآني ستكون تشريعا طبيعيا ومنطقيا، لولا أن الفقهاء جاؤوا بحديث ألغى الوصية للورثة، نسب للرسول، وترتبت عليه أحكام فقهية كبرى، غيرت من معالم الفقه الإسلامي بخصوص توزيع الثروة، وتقييد صاحبها ومالكها، بل ومنعه من تقسيمها بين ورثته بالشكل الذي يريد، فكان حديث “لا وصية لوارث”، فما قصة هذا الحديث؟ وهل يصمد أمام مبضع الجرح والتعديل؟ وهل يصح أن ننسخ ونلغي به حكما ورد في القرآن؟ !
أول شيء سنعلمه ونحن نمحص حديث لا وصية لوارث، هو أن هذا الحديث يعاني من مشاكل على مستوى السند، حتى أن البخاري في الجامع الصحيح لم يروه، لأنه لم تثبت لديه صحته، لذلك فالبخاري إنّما جعل عنوان الباب (لا وصيّة لوارثٍ)، لكنه لم يرفعه للرسول ولم يروه واكتفى في هذا الباب من الصحيح برواية حديث موقوف على ابن عبّاس يُفيد شيئا قريبا من هذا المعنى. (انظر: صحيح البخاري 3: 188( ولا يمكن لأي عاقل أن يلغي وينسخ حكما قطعيا في كتاب الله، بنص ظني موقوف على صحابي ولم يرفع حتى للرسول !
وقد تكلّم العديد من المحقّقين في طُرُقه، كالشافعي في الرسالة: 139 ـ 140، رقم (398 ـ 401).والطحاوي كما عند الألباني في إرواء الغليل 6: 96 فإنّه قال: «…وإنْ كان ذلك كلّه لا يقوم من جهة الإسناد؛ والبيهقي، فإنّه قال: «قد رُوي هذا الحديث من أوجه أُخَر كلّها غير قوية، والاعتماد على الحديث الأول كما في السنن الكبرى 6: 265 ، وهو حديث ابن عبّاس الموقوف؛ أما الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 5: 278، فإنّه قال: «ولا يخلو إسناد كلٍّ منها عن مقالٍ، وإنْ حاول بعد ذلك الدفاع عن جعله مستنداً. فقد قال بعد ذلك: «ولكن مجموعها أنّ للحديث أصلاً» وإن ضعفه اسنادا (فتح الباري 5: 278)، أما الخطّابي الذي هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب البستي، المتوفّى عام 388هـ، صاحب التصانيف، منها: معالم السنن شرح لسنن أبي داوود (الذهبي، تذكرة الحفّاظ 3: 1018، رقم (950)). أنّه قال: «…وإسناده فيه ما فيه، كما في إرواء الغليل 6: 96 بل إنّ ضعف الحديث كان من الواضحات عند أهل الفنّ من القدماء، ومع ذلك كلّه فقد عرّض الألباني (السلفي) بهم، فقال: «إنّما صدر ذلك منهم بالنظر إلى بعض الأسانيد والطرق التي وقعت لهم، وإلاّ فبعضها قوي.. ».
ومن أدق ما قيل في بيان ضعف حديث لا وصية لوارث ما أوضحه محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار حينما قال: «إنّه لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به، فلم يرْوِه أحدٌ منهما مسنداً. ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عبّاس. وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عيّاش، تكلَّموا فيه، وإنّما حسَّنه الترمذي؛ لأنّ إسماعيل يرويه عن الشاميين، حيث جاء في سنن الترمذي 3: 293، ح2203: هناد وعليّ بن حجر، عن إسماعيل بن عيّاش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعتُ النبي‘ يقول في خطبته عام حجّة الوداع:… قال الترمذي: ورواية إسماعيل بن عيّاش عن أهل العراق وأهل الحجاز ليس بذاك في ما يتفرّد به؛ لأنّه روى عنهم مناكير. وروايته عن أهل الشام أصحّ. هكذا قال محمد بن إسماعيل: سمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن عيّاش أصلح بدناً من بقيّة، ولبقية أحاديث مناكير عن الثقات. وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: سمعت زكريا بن عدي يقول: قال أبو إسحاق الفزاري: خذوا من بقية ما حدَّث عن الثقات، ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عيّاش ما حدّث عن الثقات، ولا غير الثقات. وقد قوّى بعض الأئمّة روايته عنهم خاصّة.
وحديث ابن عبّاس معلولٌ؛ إذ هو من رواية عطاء عنه، وقد قيل: إنّه عطاء الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عبّاس، وقيل: عطاء بن أبي رباح، فإنّ أبا داوود أخرجه في مراسيله عنه. وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوفٌ على ابن عبّاس، كما في صحيح البخاري 3: 188. والسند: محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عبّاس، قال: كان المال للولد و….وما رُوي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه، من قبيل: ما رواه أبو داوود في السنن 1: 656، ح2870؛ 2: 156، ح3565. والسند: عبد الوهّاب بن نجدة الحوطي، عن ابن عيّاش، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة قال: سمعتُ رسول الله‘ يقول:… وشرحبيل لم يسمع من أبي أمامة، فالحديث مرسَلٌ.
ثمّ أضاف صاحب المنار مستخلصا النتيجة التي وصل اليها من خلال تشريحه لأسانيد الحديثين بقوله: «فعُلم أنّه ليس لنا روايةٌ للحديث صُحِّحت، إلاّ رواية عمرو بن خارجة. والذي صحَّحها هو الترمذي سنن الترمذي 3: 293، ح2203. فإنّه ـ بعد نقله لحديث إسماعيل بن عيّاش ـ قال: «وفي الباب عن عمرو بن خارجة وأنس بن مالك. هذا حديثٌ حَسَنٌ». ثمّ نقل حديثاً آخر، عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة… ثمّ قال: «هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح». (سنن الترمذي 3: 293، ح2204).وهو من المتساهلين في التصحيح. وقد علمت أنّ البخاري ومسلم لم يرضياها، فهل يُقال: إنّ حديثاً كهذا تلقَّتْه الأُمّة بالقبول؟(رشيد رضا، تفسير المنار 2: 138.)
من خلال ما سبق يظهر بشكل جلي أن الكثير من الفقهاء قد زلت بهم الأقدام عندما نسخوا آية الوصية بحديث ضعيف، ثم بحديث موقوف على صحابي وغير مرفوع للرسول، سيما أن معظم الأحاديث ظنية الثبوت، بينما القرآن قطعي الثبوت، ولا يجوز بأي حال من الأحوال نسخ القطعي بالظني، والإلهي بالبشري، وبالتالي فإننا نرى أن الوصية للوارث يجب أن تكون هي الأصل بخصوص تقسيم التركة، ف(الوالدين) كما في الآية الكريمة هما من الورثة، وكذلك (الأقربين) إذ أن الزوج والأبناء هم من الورثة ويعتبرون من أقرب الأقربين أيضا، وبالتالي فالآية القرآنية تعطي الحق لصاحب التركة أن يوصي لمن شاء من الورثة وغير الورثة بنصيب من التركة أو كل التركة حسبما هو مقرر في القرآن، ويتناسب مع حق صاحب المال في توزيعه بشرط عدم الاجحاف في الوصية.