سنلاحظ في آية الوصية بأنها بدأت بفعل (كتب)، وهذا يوحي بأن لها نفس حكم الآيات التي تم تصديرها بفعل (كتب) كقوله تعالى:( {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} البقرة).
وكقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة).
والفقهاء يؤكدون بأن كتب هنا تفيد الوجوب، مما يبين وجوب الوصية، أما آيات الإرث فقد تم تصديرها بقوله تعالى (يوصيكم) قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) يوصيكم وليس (كتب) عليكم كما جاء في آية الوصية، مما ينفي عن نظام الإرث وآيات الإرث صفة الوجوب، فهي (وصية من الله )غير واجبة، بل مندوبة، ويفضل أخذها بعين الاعتبار، عند عدم وجود الوصية، أو إذا احتجنا اليها عندما يتبقى لدينا شيء من التركة وجب تقسيمه، بعد تنفيذ الوصية وإرجاع الدين، لكن الفقهاء فعلوا العكس، حيث قاموا بإيجاب آيات الإرث بينما أهملوا الوصية، وقزموها، ووضعوا الروايات الضعيفة إما لإلغائها، أو تحجيمها، حيث منعوا المالك من التوصية إلا في حدود الثلث، ومنعوا الورثة من الوصية !
ورغم وجوب الوصية، إلا أنه من الممكن جدا أن يموت صاحب التركة، ولأسباب متعددة قد لا يكتب وصيته، فوضع القرآن نظام الإرث، للاستدراك في حال عدم وجود الوصية، كما أسلفنا، وليس لإلغاء حكم الوصية الثابت بالنص القطعي الدلالة في القرآن، والذي يفيد الوجوب، لذلك يجب التمييز بين يوصيكم الله، والتي تأتي من باب (التوصية) في الإرث وليس الوجوب، الواردة في آيات الإرث، وبين كلمة (كتب) التي تفيد الوجوب بالإجماع.
وفي هذا يقول الدكتور شحرور في كتابه نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي مدققا في دلالات الآية القرآنية ( يوصيكم الله في أولادكم….) من خلال سياقها اللغوي: ( ونعود إلى آيات الإرث الثلاث في التنزيل الحكيم وإلى قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم..} ونقف عند حرف الجر (في) الوارد في الآية، الذي يحدد محل الوصية في القصد الإلهي. ففعل وصى في اللسان العربي يقتضي مفعولاً به هو محل الوصية، وغالباً ما يأتي المفعول به على شكل اسم مجرور بالباء، كما في قوله تعالى:
- وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} العصر3.
- وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} لقمان14.
- وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} مريم 31.
هنا نعرب الاسم أنه مجرور لفظاً منصوب محلاً مفعولاً به. وهذا بالذات ما أقنع إماماً مثل ابن عباس أن يقرأ قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} الإسراء23 على الشكل التالي: ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.. وكان يقول: لو قضى ربك ألا يُعبد إلا إياه، لما عبد إلا إياه!!.
ولما كان للوصية محل وموضوع، فإن من اللازم تحديدهما في الوصية، وبيان محلها والمخاطب الذي عليه تنفيذها، وتوضيح موضوعها وحقلها الذي يقصده الموصي. فمحل الوصية في قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه} هو الإنسان، أما موضوعها فهو الوالدان. ومحل الوصية في قوله {وأوصاني بالصلاة} هو المسيح بن مريم (ع) أما موضوعها فهو الصلاة. ولعلنا لا نجد في التنزيل الحكيم وصية إلا ونجد معها محلها وموضوعها. فما هو المحل وما هو الموضوع في قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم}؟
الناس والولد : يضيف الدكتور شحرور في نفس المصدر متحدثا عن محل الوصية بقوله (أما محل الوصية هنا فهو الناس، الذين بدأ سبحانه بتوجيه الخطاب إليهم في مطلع الآية الأولى من النساء بقوله {يا أيها الناس اتقوا ربكم} إلى قوله في مطلع الآية 11 {يوصيكم الله في أولادكم} وأما موضوع الوصية فهو إرث الأولاد وحظ كل منهم من التركة.
يشرح محمد شحرور مفصلا في دلالات كلمة أولاد بقوله:( ونلاحظ أنه سبحانه قال {في أولادكم} ولم يقل (في أبنائكم)، رغم أن ذكر الأبناء ورد في نفس الآية بقوله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} النساء11.
الأولاد جمع مفرده ولد، ويقال للذكر والأنثى، إذ ليس في اللسان العربي مؤنث للولد.
والولد إضافة إلى أنه يعني المذكر والمؤنث، فهو يعني كل إنسان على ظهر الأرض لأنه بالأصل مولود. ومن هنا جاء تكريم الله سبحانه للجنس البشري بأكمله، حين أقسم به في التنـزيل الحكيم بقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} البلد 3. ومن هنا أيضاً قوله تعالى عن ذاته المقدسة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} الإخلاص 3. ولهذا نجد قواعد الإرث التي جاءت كموضوع للوصية بعد قوله “أولادكم” تشمل كل حالات الإرث لأهل الأرض قاطبة، ولكل من يلد ويولد من الأبوين والأحفاد والأزواج والإخوة).انتهى من قول الدكتور شحرور.إن هذه المقدمة الهامة بخصوص معنى كلمة (الولد) في القرآن والسياقات التي جاءت بها تحيلنا على معضلة حقيقية في فهم الفقهاء، الذين فسروا كلمة ولد بكلمة ذكر، وهو الشيء الذي أوقعهم في خلط عجيب، تسبب في ظلم للمرأة استمر لأزيد من أربعة عشر قرنا بدعوى التعصيب.